الاثنين، 11 أغسطس 2008

الزاوية البعيدة (7)


محمود درويش شاعر فلسطين الأول ونبضها الباقي

كان ذلك جارحا أكثر مما يجب.... أن تغيب في لحظة مباغته لتقول للموت ثانية أنك لا تأبه به ولا تهتم بخياراته ولا تترك له مجالا.... أن تحزم أنوار القصائد وترمي بها إلى الأعلى ثم تتسلق الوميض وتتركنا في العتمة لا نعي أنفسنا ولا مباغتتك إيانا...
هكذا تعودت أن اتحدث معك طوال الوقت عندما كنت استطيع أن اتلمس نقاء الضوء في رئتي....دع عنك ما تشترك به كل القلوب التي احبتك واحبت الشعر واحبت الكون الذي يغني للحرية والوطن... دع عنك أيضا صورتك الارضية التي يراك بها الاخرون..وانت تعلم أن الموت يجعلنا نشعر بالخفة والحرية اكثر مما كنا نشعر بها ونحن نحلق في أرجاء القصيدة... اليوم وأنا أردد خلفك (أحن إلى خبز أمي وقهوة أمي) شعرت أن شيئا حادا يجرح حنجرتي ... أن صوتي يتمطى في الكون ثم يغيب إلى الأبد... وأن أمي لم تسمعني للمرة الأولى....

اليوم اجلس معك وكأنني أستعيدك من طفولتي أو استعيدني من غيابك ، أصابعي وديوانك الأحمر الصغير الذي أحتفيت به بعيدا في غور الكلمات ...وغور الذكريات ... كنت اتمنى أن اتصل ب (*) لأقول له مات درويش... هكذا بلا مقدمات وانفجر باكية كما فعلت عندما علمت بالخبر... رغم أنه الان لا يعرفني بل لا يتذكر ما علاقتنا انا وانت به .... ورغم أنني لا أعرف الان في أي أرض يسكن الصديق الذي قال لي يوما هذه هدية لك .. وناولني ديوانين صغيرين بلون الدم... كانت حصيلة اعمالك الكاملة في حينها....قرأت الغلاف ونظرت إلى الصديق فترددت في روح الطفلة التي كنتها الكلمات وكأنها نبوءة (أحبك أو لا أحبك) ....

اتعلم أن الكلمات تتعثر في اقدارنا ؟؟؟ هكذا تعثر اسم ديوانك في قدري وفي روحي... وبت في مدار لا يستقر يردد في سمع الكون (أحبك أو لا أحبك) ....
أنا لا أحبك الآن وانت تتركني حبلا في الريح .... وتترك الوطن على أهبة الجنون يحاول مثلي أن ينظر في عيون أحبته ويصرخ عاليا.... هل تتذكر أحاديثنا الكثيرة ؟؟؟ عندما غضبت منك لانك صمت بعد اوسلو ... قلت لك لا يجب أن يصمت الشاعر... وانت (الشاعر) بأل تعريف خاصة بك أنت ... وقلت لي ... اه ماذا قلت لي ...؟؟؟ لا اتذكر ... بل اتذكر لانني كتبت خاطرتي (**) واهديتها لك سرا .... ليس لاني ظننت في حينها ان الشعر قد جففته الحقوق الضائعة لنا في ارضنا ولكني كنت خائفة ان تهرب انت من القصيدة وتدير لها ظهرك...
لست ارثيك في زاويتي البعيدة ... فأنت لم تمت لاني بالامس سهرت معك وتشاجرت مع الحكيم (*) لاجلك ولم اتحدث مع اصدقائي الذين سيفهمون حزني لانه حزنهم فقط لانفرد واياك بلحظات غيابك الاخير ... كنت احاول أن أكون معك حين ادرت ظهرك مغادرا بعد ان ودعت اهلك وانت تردد (واعشق عمري لاني اذا مت اخجل من دمع امي) ستضحك مني الان ولكنك لن تقول ان هذا ليس صحيحا لاني اعرف انه صحيح وانك رددت هذه الكلمات في اللحظة الضيقة جدا التي دفعتك بعيدا عن صدرها .. لتمضي ذاهلا نحو الغياب...
كنت احاول ايضا تصورك وانت بعيد عن القصيدة في البياض لكنك باغتني ورميت لي بسبعة أبواب ومضيت...!

أنت الآن تجلس بعيدا وتعلم أنني اراك واراقب انفعالاتك .... منذ شهر واحد فقط كنت اسمع صوتك وانا اعيد ترتيب اوراقي المبعثرة ...سمعتك تضحك .... كان جمهورك يصفق اما انا فتوقفت لاراقب غور وحدتك... انت لا تعلم قدرتي على التوحد مع روحك عبر كلماتك بعيدا عن الديوان والقصيدة ... بعيدا عن الملامح.....بعيدا عن ضحكتك التي تشعرني دائما أن النسيم يجرك حين يمر على الارض ولا يترك لك بعضا من الغناء القديم ....

عندما التقينا للمرة الاولى كنت اجلس في مقعد في منتصف القاعة على الجانب الايسر قرب الممر... كنت استعد للتحدث معك...كنت طفلة لكني كنت اراك فارسا للروح... وحين تخيلت انني ساقرأ لك قصيدة ...اخذني الخجل حدا تضرج وجهي ولم اسمع من كلماتك الكثيرة سوى تصفيق حاد لجمهور يعشقك وظننت انه جمهور كبير لكنه مثلي بقلب طفلة لذا يصفق طويلا ليخفي خجلة منك...

المرة الثانية كنت في طريقي الى جريدة الخليج لمقابلة احد الاصدقاء(*)...لم اكن طفلة حينها لكني حين عرفت انك كنت تدخل من باب الجريدة وانا في طريقي لمغادرتها اخذ قلبي ينبض بشدة ... قد اخطو في المكان ذاته الذي داسته اقدام درويش قبلي ... قد تلتقي خطواتي بخطوات الشاعر.. وكاد قلبي يتوقف حينها لكني مضيت بسرعة ولم المح منك شيئا سوى السيارة السوداء الفخمة التي حملتك بعيدا..فاسرعت الخطى وعندما وصلت الى البيت اخذت ديوانك وابتسمت ....

في الامسية الاخيرة التي حضرتها لك كنت استمع لمن حولي، للتصفيق والهتاف والحديث والاصوات التي تردد قصائدك معك... كنت اجلس بعيدا لكني كنت استعيد كل الكلمات والصور والذكريات والاحلام...كنت سعيدة انني لم اكن مع احد في الامسية سوى معك...وحين غادرت كانت القاعة لا تحتمل جمهورها ... هل كان كل هؤلاء شعراء ؟؟؟ مثقفين ؟؟؟ ام كادحين ...يحلمون بالقصيدة !
كم مر من الوقت وانا اخذ (أثر الفراشة) معي كل يوم الى العمل واعود به الى البيت لعلي اجد وقتا لاكتب عنه ... ليس كسلا ولكني في كل مرة كنت اقرأ واعيد القراءة وكنت اقول .... انا خجلى ان اكتب عنك ولو كلمة ... خجلى منك لان الكلمات بليدة حين يراد لها ان تقترب من صفاء القصيدة ... من صفاء الكتابة .... الكلمات اليوم تزداد بلادة .... حين يراد لها ان ترفع لك يدها بالتحية ...

ليست هناك تعليقات: