الخميس، 23 أكتوبر 2008

الزاوية البعيدة (10)



سأفترض أننا لم نلتق !
وأن ذلك المجرى الذي حفرته الدموع تحت عيني لا يظهر لي عندما ادقق في ملامح وجهي في المرآة وسوف افترض أيضا أن قبر أمي لم يعد قبرها وأن القبور التي تتناثر في ذاكرتي لم تعد موجودة وأن أصحابها كلهم نفضوا عنهم الغبار وصعدوا إلى ما قبل الموت ...سأفترض أن أبي لم ينظر إلي تلك النظرة المودعة وأنه الآن سيدخل للتو حاملا معه الكثير من الحلوى التي نحب...
سوف أفترض أيضا أني أنا نفسي لم أمت وأنني لازلت أحيانا أتجول في الليل وحدي..وأحيانا أهمس باسمك وأستحضرك لنتحدث أو لنتبادل العناق....
سوف أفترض أن الوطن الذي عشقته لم يستقبلني يوما وأننا الآن في اللحظة السابقة لكل هذا...اللحظة التي تقترب من الدموع لكنها لا تقع فيها.. آه نسيت أيضا أن افترض أنني لم اكتب كل تلك الرسائل والكتابات وحتى القصاصات الصغيرة التي أبعثرها هنا وهناك... وأن بعض القصص والقصائد وأشياء أخرى قد امحّت فجأة وأنني عدت تلك الطفلة التي تحلم وتقول بمرح (لازال في جعبتي الكثير)
هكذا سأرى نفسي فتاة هادئة.. هادئة جدا ... تتأمل بصمت وتكتب بإصرار ولها في كل مشهد فكرة وفي كل حكاية موضوع وفي كل انحناءة قصيدة .... وأنها لا زالت في الخطوة الأولى في الدرب الذي سيكتمل حتما بذات الحماقات...لكني سأغيره كثيرا ...
مثلا سأجعل المطر يهمي في اللحظة ذاتها التي قلت لي فيها أنك تحبني... اللحظة التي أشعلت روحي وتركتني صامته بينما جعلتك ...جعلتك ماذا لست أدري! بل أدري .. جعلتك تبتسم بسعادة حقيقية... كيف نبتسم بسعادة وكيف تكون السعادة حقيقية ... سأفترض أنني أعرف...
سأغير المشهد أيضا في نهاية ذلك اليوم الذي شاهدت فيه الموت يتمشى في الممر المؤدي إلى غرفة أمي في المستشفى وسوف أضع الكثير من الورود في ساحة سأسميها ساحة الشهداء... شهداء يعبرون السماء بقلوب عاشقة.... سأضع الورود وأنا أبحث عن اسمي بينهم ...
سأدخل فلسطين بتاريخ سابق على التاريخ الرسمي في مذكراتي وفي كتاباتي سأجعله تاريخ ولادتي أو أبعد قليلا ؟ ربما قبل أن تتفتح جراح القرى الهادئة .. ربما قبل قليل من انتهاء عاصفة ما... أو في مجرى الحياة تماما ... كاليوم الذي جف فيه الطوفان.... أو صعدت فيه روح طاهرة إلى السماء ...
وسوف أجعلك تحبني كما لن تحب امرأة في حياتك ! ....
سأدخل فلسطين قبل أن أولد بعشر سنوات أو أكثر... وسوف ألتقي بك صدفة في باب مطار أو معبر ! سأدعي أنني لم أنتبه لنظراتك التي تحمل دهشة الفرح... ولروحك التي أصابها الارتباك....سأزعم مثلا أنك تذكرني بإنسان ما عبر على ذاكرتي... وسوف أجيبك ربما في حياتي الثالثة أو الرابعة لست أدري.... وسوف أضحك حين أدير وجهي واعرف أنني لامست نبضك بحنو...
سنمشي معا على طريق جبلي ... و سوف نتحدث طويلا وكثيرا لكن عينيك ستكونان غاية في الدهشة ... لأنك التقيت للتو المرأة التي بحثت عنها طويلا وجعلتك تتوجس من تاريخك كله ومن القادم أيضا ...
الوطن سيعد لي صباحا يشبه ذات الصباح الذي استيقظت فيه في الوطن وفتحت النافذة وهمست لنفسي (أنتِ في فلسطين) وكنت في بيت لحم... وهذا الصليب المعلق في منتصف المشهد تماما الذي أطالعه من نافذتي سيومض بإضاءته المميزة وسوف التفت إلى جانب آخر من المشهد لاكتشف أن الصورة ذاتها تحتوي على جامع أيضا ليقولا معا إن الله لا يبدل لباسه كل يوم حين يتغير متعبدوه!
الرذاذ سيغلف نظرتي للأشياء ... والشارع سيكون تماما كما كان في ذلك الوقت ... هادئا وبه بعض من نعاس...لكنك ستكون فيه أيضا ... سأعود إلى بيتي في قريتنا الصغيرة ... سأفتح كل النوافذ وأعانق أمي كما كنت افعل .. أضع رأسي على صدرها استمد منها القوة ثم أرفع رأسي وابتسم ... وسوف تبقى هادئة كما كانت تفعل لأنها تنتظر انتهاء صلاتي... العناق صلاة .. أنت لم تكن تعرف هذا!
سأضع في كلماتي نغما لا يدرك كنهه أحد... اسرقه من نبضي ومن دقات قلبي... أحد لا يعرف الحب ... ذلك الصافي الذي يمر ما بين الرذاذ والنعاس.. تماما كما مررت أنا على أحد الطرقات وتركت ظلي يغيب بينما كنت أتحدث معك ...أحد لا يعرف الحب مثلما عرفته أنا...
عندما يكتمل كل ذلك.. سأرفع الحواجز عن الزمان والمكان... ساترك الأشياء تنساب كبحر هادئ ... كمجرة نائمة ... كقطرة ماء..سينساب كل شيء بتداخل جميل... كنغم لم يسمع به الكون ...
عندها سأناديك ... وسوف تلبي النداء!

هناك تعليقان (2):